الأخبار التقنية

الطائرات المسيّرة بين الابتكار العسكري وفقاعة الاستثمار.. إلى أين يتجه مستقبل الحروب؟ 


تكنلوجيا اليوم
2025-10-07 12:21:00

لقد أحدثت الطائرات المسيّرة انقلابًا جذريًا في قواعد الاشتباك داخل ساحات المعارك الحديثة، وباتت عنصرًا لا يمكن تجاهله في أي إستراتيجية عسكرية معاصرة، إذ لم تَعد هذه الأنظمة مجرد أدوات للمراقبة، بل تحولت إلى أسلحة فتاكة ومؤثرة قادرة على تغيير المعادلة العسكرية بطريقة غير مسبوقة.

ويبرز المثال الأوضح في الحرب الدائرة في أوكرانيا، إذ تحولت المسيّرات المنخفضة التكلفة إلى أسلحة فتاكة قادرة على تدمير دبابات ومدرعات تُقدّر قيمتها بملايين الدولارات، في مشهد يختصر كيف يمكن للتكنولوجيا البسيطة نسبيًا أن تُربك موازين القوى الكبرى.

وقد أشعل هذا التحوّل غير المتوقع في طبيعة الصراع العسكري سباقًا محمومًا بين مؤسسات الدفاع التقليدية، التي لطالما هيمنت على سوق التسلح، وبين شركات التكنولوجيا الناشئة، التي وجدت في هذا القطاع فرصة تاريخية لإثبات حضورها. ونتيجة لذلك، اندفع مجال الأنظمة الجوية المسيّرة إلى صدارة أولويات الإنفاق العسكري العالمي، ليصبح المحرك الأبرز للابتكار في الصناعات الدفاعية.

وفي خضم هذه الطفرة من الابتكار والتوقعات اللامحدودة بمستقبل هذه التكنولوجيا، يطلق قادة الصناعات الدفاعية العريقة تحذيرات قوية ومثيرة للقلق. فالسؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن هو: هل هذه التكنولوجيا، التي يُنظر إليها على أنها  أكبر ابتكار عسكري منذ جيل كامل، هي فعلًا الركيزة التي سيُبنى عليها المستقبل العسكري، أم أنها قد تكون مجرد فقاعة ضخمة مهددة بالانكماش السريع؟  

تحذير من (فقاعة ضخمة) يطلقه عملاق الدفاع الألماني:

مع الدور المحوري للطائرات المسيّرة العسكرية في جبهات القتال، وارتفاع منسوب التهديد الذي تمثله المسيّرات الروسية في الأجواء الأوروبية، أطلق آرمين بابيرجر، المدير التنفيذي لشركة راينميتال (Rheinmetall AG) الألمانية – أكبر شركة للصناعات الدفاعية في البلاد – تحذيرًا غير مسبوق بأن هذه التكنولوجيا المربكة قد تكون فقاعة ضخمة.

ويعكس هذا التصريح تشكيكًا في نموذج العمل الخاص بتصنيع الطائرات المسيّرة المنخفضة التكلفة للغاية على نطاق واسع، ويشير إلى الإمكانات المتنامية لتقنيات مكافحة المسيّرات في تحييد تأثيرها. وفي الوقت ذاته، يواجه عمالقة الدفاع مثل (راينميتال) منافسة شرسة وغير مسبوقة من شركات التكنولوجيا الناشئة لتأمين العقود الدفاعية المربحة.

من واشنطن إلى لندن.. العالم يستعد لحروب تقودها الطائرات المسيّرة:

لقد أثبتت أوكرانيا قدرتها على إنتاج ملايين المسيّرات بتكاليف محدودة واستخدامها لتدمير دبابات روسية تكلّف أضعاف ثمنها، وهو ما كان أساسيًا في صدّ العدوان. وفي المقابل، طوّرت موسكو ترسانتها من المسيّرات أيضًا، مما وضع حلف شمال الأطلسي (الناتو) أمام سؤال مقلق حول مدى انكشافه وضعفه أمام هذا التهديد التكنولوجي المتنامي. وقد عزّزت هذه التجارب العملية وجهة نظر القادة العسكريين الغربيين حول ضرورة تبني هذه التقنية.

وفي هذا الصدد، وصف بيت هيغسيث، وزير الدفاع الأمريكي، الطائرات المسيّرة بأنها “أكبر ابتكار في ساحة المعركة منذ جيل كامل”. وتأكيدًا لهذا التوجه، تعهد هيغسيث في يوليو الماضي بتسريع عمليات الشراء والموافقة على اقتناء الجيش الأميركي لمئات النماذج المصنعة محليًا، وحدد هيغسيث رؤيته لهذه الأصول الجديدة بوضوح في مذكرة رسمية: “يجب أن تكون رخيصة، وقابلة للاستبدال بسرعة، وتُصنَّف على أنها مواد استهلاكية”.

ويُماثل هذا الزخم العسكري ما أعلنته حكومة المملكة المتحدة في الشهر السابق، إذ خصصت أكثر من 4 مليارات جنيه إسترليني (5.4 مليارات دولار) لتمويل أنظمة المسيّرات والأنظمة الذاتية التشغيل، في خطوة تهدف إلى تبني نهج أكثر اعتمادًا على الطائرات المسيّرة في الحروب المستقبلية.

تحول السوق.. صعود الشركات الناشئة وتحدي عمالقة الدفاع:

تهيمن شركات الدفاع العملاقة على سوق الطائرات المسيّرة الكبيرة، ومع ذلك أغلبها غير مستعدة للتحول نحو تصنيع المسيّرات المنخفضة التكلفة، وقد فتح هذا التباطؤ الباب أمام الشركات الناشئة الطموحة، التي تَعد بتسليم ابتكارات أسرع بأسعار زهيدة، ما يجذب اهتمام مكاتب المشتريات العسكرية.

ويُعزز هذا التوجه تضاعف تمويل رأس المال الاستثماري في القطاع بأكثر من مرتين مقارنة بعام 2021. وتتصدر هذا السباق شركة (Anduril Industries) الأميركية للمسيّرات المُسلّحة، التي شارك في تأسيسها المخترع بالمر لوكي عام 2017. وقد قُدرت قيمة الشركة آخرًا بأكثر من 30 مليار دولار بعد جولة تمويل خاصة ضخمة بلغت 2.5 مليار دولار، وهو ما يمثل تضاعفًا قويًا يعادل نحو 30 ضعف إيراداتها للعام الماضي.

كما ظهرت في أوروبا ثلاث شركات مليارية (يونيكورن) عسكرية للطائرات المسيّرة على الأقل، وهي: شركة (Tekever) البرتغالية، وشركة (Quantum Techniques) الألمانية، وشركة (Helsing) الألمانية، التي تأسست عام 2021 وتبلغ قيمتها 12 مليار يورو (14.2 مليار دولار).

هل تبالغ الحكومات في تقدير احتياجاتها؟

لقد بدأت شركة (Helsing) الألمانية كشركة ذكاء اصطناعي، لكنها تحولت آخرًا إلى صناعة الطائرات الخفيفة، ويشير استحواذها في شهر يونيو الماضي على شركة (Grob Plane SE) لصناعة الطائرات الخفيفة إلى طموحاتها في مجال الأجهزة، التي تشمل، بحسب التقارير، قدرات على شن ضربات بعيدة المدى. وبينما تفككت شراكة بين شركتي Helsing و Rheinmetall العام الماضي، تواصل الأخيرة تعاونها مع (Anduril).

ويضع هذا التنافس تصريحات آرمين بابيرجر، الرئيس التنفيذي لشركة (Rheinmetall)، أحد أكثر الشخصيات نفوذًا في جهود إعادة التسلح الأوروبية، في موضع لافت للنظر. إذ صرّح لصحيفة (وول ستريت جورنال) في لندن خلال شهر سبتمبر الماضي بأنه “غير مقتنع شخصيًا بأن أعمال المركبات الجوية المسيّرة بهذا الحجم الذي يعتقده الكثيرون”.

وأوضح (بابيرجر) أن الحكومات لا تحتاج إلى مئات الآلاف من المسيّرات، مشيرًا إلى أن أسعارها تنخفض بسرعة فائقة، واستشهد بالمسيّرات القصيرة والطويلة المدى المنخفضة التقنية نسبيًا والمُصنّعة تجاريًا، التي تتراوح أسعارها بين 1,000 يورو و 2,500 يورو، وهو النوع الذي تبرع أوكرانيا في تصنيعه، في حين تكلّف النماذج المتطورة من Anduril و Helsing أضعاف هذه المبالغ.

تحديات التوسع والتقادم.. مأزق شركات الطائرات المسيّرة الناشئة:

تحتاج الشركات الناشئة في قطاع الطائرات المسيّرة إلى تأمين طلبيات ضخمة لتبرير تقييماتها المرتفعة وتمكينها من توسيع مصانعها وتحقيق عائد مجدٍ. لكن هذا الطموح يصطدم بالواقع؛ فمع الزيادة الكبيرة في الإنفاق الدفاعي الألماني، لم تُقدم برلين حتى الآن على شراء كميات كبيرة من الطائرات المسيّرة.

ويُضاف إلى ذلك، أن تخزين كميات كبيرة من المسيّرات الرخيصة قد يؤدي إلى تقادمها بسرعة، وهو ما يُقال إن مسؤولي الدفاع الألمان قلقون بشأنه، باستثناء القدرة على تحديث برمجياتها.

ومع ذلك لا تُشكل هذه المعضلة تحديًا كبيرًا لشركة (Rheinmetall)، التي تضاعفت قيمتها السوقية بنحو 20 ضعفًا منذ بدء الحرب الأوكرانية لتصل إلى 88 مليار يورو، نظرًا إلى التوقعات بإمكانية استحواذها على نحو ربع الإنفاق الدفاعي للدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) بحلول نهاية العقد.

ومع أن شركة (Rheinmetall) تُورّد بعض أجزاء هياكل طائرات (F-35) المقاتلة، وقيل إنها تُنافس على بناء طائرة برلين المسيّرة ذات الضربات العميقة، لكن خبرتها الأساسية تتركز في الأنظمة البرية مثل: المركبات المدرعة وقذائف المدفعية. وقد يصبح هذا التركيز على المنتجات القديمة نقطة ضعف في المستقبل، خاصة إذا بدأ المستثمرون في تفضيل الشركات التي توفر تعرضًا أكبر لقطاع البرمجيات.

لكن في الوقت الراهن، تتمتع شركة (Rheinmetall) بموقع مالي قوي، وتتوقع طلبيات بمليارات اليورو لنظامها المتنقل المضاد للمسيّرات الذي يُسمى (Skyranger)، والذي يستخدم ذخائر تنفجر في الجو أمام الهدف.

ويُعدّ هذا النظام جزءًا من مجموعة من تقنيات مكافحة المسيّرات، بما يشمل الليزر وأجهزة التشويش الإلكترونية، التي يروج لها المقاولون كحل لمشكلة إسقاط المسيّرات الرخيصة باستخدام صواريخ أو أسلحة طائرات مقاتلة باهظة الثمن، وهو ما اضطرت بولندا للقيام به آخرًا.

قد تكون هذه التقنيات المضادة أقل عرضة للتقادم، وقد أثارت جدلًا حول “نهاية هيمنة المسيّرات” الوشيكة، وهي وجهة نظر يبدو أن شركة (Rheinmetall) تتبناها، فقد أشار ممثل للشركة للمستثمرين في وقت سابق من هذا الشهر إلى أنه بوجود نظام دفاع جوي فعال، لم تَعد المسيّرات تشكل تهديدًا حقيقيًا في ساحة المعركة، لأنها تطير على ارتفاع منخفض وببطء.

 مستقبل الطائرات المسيّرة.. الابتكار يواجه تحديات الواقع:

لا يزال مستقبل المركبات الجوية المسيّرة واعدًا ومشرقًا، حتى في ظل التشكيك في حجم السوق، إحدى الاستراتيجيات الواعدة لإحباط هجمات المسيّرات هي استخدام طائرات أسرع، تُعرف باسم المُعتَرِضات (Interceptors)، المصممة للاصطدام بالمركبات المُهاجِمة أو تدميرها برؤوس حربية صغيرة.

ومن هنا، يبدو أن المسيّرات في ساحة المعركة مقدر لها أن تستدعي المزيد من المسيّرات لصدها. وهذا لا يشمل فقط المُعتَرِضات، بل يمتد إلى تطبيقات عسكرية أكثر تقدمًا مثل المقاتلات المسيّرة التي تصل تكلفتها إلى ملايين الدولارات.

 كما أن توفير البرمجيات وأنظمة الذكاء الاصطناعي اللازمة لتمكين ما يُعرف باسم (أسراب المسيّرات) Drone Swarms، والقتال الجوي المستقل، يمثل فرصًا مربحة للغاية قد تُبقي على التقييمات العالية للشركات الناشئة.

مع ذلك، تواجه الشركات الناشئة تحديًا حقيقيًا يتمثل في ضرورة إثبات براعتها في البرمجيات عبر بناء الأجهزة أيضًا، وهي عملية تنطوي على هوامش ربح أقل ومخاطر عالية، إذ إن توسيع نطاق التصنيع وإقامة سلاسل إمداد تتجنب المكونات الصينية المنتشرة أمر أصعب بكثير من تقديم عرض تقديمي مُبهر.

وعلاوة على ذلك، بمجرد انتهاء الحرب الأوكرانية، من المرجح أن تواجه هذه الشركات منافسة أكثر شراسة من الشركات الأوكرانية، التي صقلت مهاراتها في الحرب.

وتوفر القدرة على اختبار المسيّرات وحل أي مشكلات تقنية مباشرة في ساحة المعركة الأوكرانية بعض الضمانات بأن الغرب سيحصل في نهاية المطاف على معدات عالية الجودة وموثوقة. وبالنظر إلى تزايد التهديدات الناشئة، والشعور السائد بأن الغرب قد تخلف عن الركب في مجال المسيّرات، والاتجاه الدائم نحو استبدال المقاتلين البشريين بمعدات غير مأهولة، قد يكون المستثمرون محقين في الاعتقاد بأن الحكومات لم تبدأ بعد بفتح صمامات الإنفاق الدفاعي بالكامل.

في النهاية، إذا كانت المسيّرات تُشكل فقاعة استثمارية، فما يزال لديها متسع كبير من الوقت لتتضخم أكثر قبل أن تنفجر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى